فصل: ذكر الحرب بين المؤيد وسنقر العزيري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ملك المسلمين مدينة المرية وانقراض دولة الملثمين بالأندلس:

في هذه السنة انقرضت دولة الملثمين بالأندلس، وملك أصحاب عبد المؤمن المرية من الفرنج.
وسبب ذلك أن عبد المؤمن لما استعمل ابنه أبا سعيد علي على الجزيرة الخضراء ومالقة عبر أبو سعيد البحر إلى مالقة، واتخذها داراً، وكاتبه ميمون بن بدر اللمتوني، صاحب غرناطة، أن يوحد ويسلم إليه غرناطة، فقبل أبو سعيد ذلك منه وتسلم غرناطة، فسار ميمون إلى مالقة بأهله وولده، فتلقاه أبو سعيد، وأكرمه، ووجهه إلى مراكش، فأقبل عليه عبد المؤمن وانقرضت دولة الملثمين ولم يبق لهم إلا جزيرة ميورقة مع حمو بن غانية.
فلما ملك أبو سعيد غرناطة جمع الجيوش وسار إلى مدينة المرية، وهي بأيدي الفرنج، أخذوها من المسلمين سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، فلما نازلها وافاه الأسطول من سبتة وفيه خلق كثير من المسلمين، فحصروا المرية براً وبحراً، وجاء الفرنج إلى حصنها، فحصرهم فيها ونزل عسكره على الجبل المشرف عليها، وبنى أبو سعيد سوراً على الجبل المذكور إلى البحر، وعمل عليه خندقاً، فصارت المدينة والحصن الذي فيه الفرنج محصورين بهذا السور والخندق، ولا يمكن من ينجدهما أن يصل إليهما، فجمع الأذفونش ملك الفرنج بالأندلس، والمعروف بالسليطين، وفي اثني عشر ألف فارس من الفرنج، ومعه محمد بن سعد بن مردنيش في ستة آلاف فارس من المسلمين، وراموا الوصول إلى مدينة المرية ودفع المسلمين عنها، فلم يطيقوا ذلك، فرجع السليطين وابن مردنيش خائبين، فمات السليطين في عوده فبل أن يصل إلى طليطلة.
وتمادى الحصار على المرية ثلاثة أشهر، فضاقت الميرة، وقلت الأقوات على الفرنج، فطلبوا الأمان ليسلموا الحصن، فأجابهم أبو سعيد إليه وأمنهم، وتسلم الحصن، ورحل الفرنج في البحر عائدين إلى بلادهم فكان ملكهم المرية عشر سنين.

.ذكر غزو صاحب طبرستان الإسماعيلية:

في هذه السنة جمع شاه مازندران رستم بن علي بن شهريار عسكره، وسار ولم يعلم أحد جهة مقصده، وسلك المضايق، وجد السير إلى بلد الموت، وهي للإسماعيلية، فأغار عليها وأحرق القرى والسواد، وقتل فأكثر، وغنم أموالهم، وسبى نسائهم، واسترق أبنائهم فباعهم في السوق وعاد سالماً غانماً، وانخذل الإسماعيلية، ودخل عليهم من الوهن ما لم يصابوا بمثله، وخرب من بلادهم ما لا يعمر في السنين الكثيرة.

.ذكر أخذ حجاج خراسان:

في هذه السنة، في ربيع الأول، سار حجاج خراسان، فلما رحلوا عن بسطام أغار عليهم جمع من الجند الخراسانية قد قصدوا طبرستان، فأخذوا من أمتعتهم، وقتلوا نفراً منهم، وسلم الباقون وساروا من موضعهم.
فبينما هم سائرون إذ طلع عليهم الإسماعيلية، فقاتلهم الحجاج قتالاً عظيماً، وصبروا صبراً عظيماً، فقتل أميرهم، فانخذلوا، وألقوا بأيديهم، واستسلموا وطلبوا الأمان، وألقوا أسلحتهم مستأمنين، فأخذهم الإسماعيلية وقتلوهم، ولم يبقوا منهم إلا شرذمة يسيرة؛ وقتل فيهم من الأئمة والعلماء والزهاد والصلحاء جمع كثير، وكانت مصيبة عظيمة عمت بلاد الإسلام، وخصت خراسان، ولم يبق بلد إلا وفيه المأتم.
فلما كان الغد طاف شيخ في القتلى والجرحى ينادي: يا مسلمون، يا حجاج، ذهب الملاحدة، وأنا رجل مسلم، فمن أراد الماء سقيته؛ فمن كلمه قتله وأجهز عليه، فهلكوا جميعهم إلا من سلم وولى هارباً؛ وقليل ما هم.

.ذكر الحرب بين المؤيد والأمير إيثاق:

قد ذكرنا تقدم الأمير المؤيد أي أبه مملوك السلطان سنجر، وتقدمه على عسكر خراسان، فحسده جماعة من الأمراء السنجرية، وانحرف عنه، وكان تارة يقصد خوارزمشاه، وتارة شاه مازندران، وتارة يظهر الموافقة للمؤيد، ويبطن المخالفة.
فلما كان الآن فارق مازندران ومعه عشرة آلاف فارس، وقد اجتمع معه كل من يريد الغارة على البلاد، وكل منحرف عن المؤيد، وقصد خراسان، وأقام بنواحي نسا وأبيورد، لا يظهر المخالفة للمؤيد بل يراسله بالموافقة والمعاضدة له، ويبطن ضدها.
وانتقل المؤيد من المكاتبة إلى المكافحة، وسار إليه جريدة، فأغار عليه وأوقع به، فتفرق عنه جموعه ونجا بحشاشة نفسه، وغنم المؤيد وعسكره كل ما لا يثاق، ومضى منهزماً إلى مازندران؛ وكان ملكها رستم بينه وبين أخ له اسمه علي تنازع على الملك، وقد قوي رستم، فلما وصل إلى مازندران قتل علياً وحمل رأسه إلى أخيه رستم، فعظم ذلك على رستم، واشتد واستشاط غضباً، وقال: أكل لحمي ولا أطعمه غيري.
ولم يزل إيثاق يتردد في خراسان بالنهب والغارة، لا سيما مدينة اسفرايين فإنه أكثر من قصدها حتى خربت، فراسله السلطان محمود بن محمد والمؤيد يدعوانه إلى الموافقة، فامتنع، فسارا إليه في العساكر، فلما قارباه أتاهما كثير من عسكره، فمضى من بين أيديهما إلى طبرستان في صفر سنة ثلاث وخمسين فتبعاه في عساكرهما، فأرسل شاه مازندران يطلب الصلح، فأجاباه واصطلحوا، وحمل شاه مازندران أموالاً جليلة وهدايا نفيسة، وسير إيثاق ابنه رهينة فعادا عنه.

.ذكر الحرب بين المؤيد وسنقر العزيري:

كان سنقر العزيري من أمراء السلطان سنجر، وممن يناوىء أيضاً المؤيد أي أبه، فلما اشتغل المؤيد بحرب إيثاق سار ستقر من عسكر السلطان محمود بن محمد إلى هراة ودخلها وبها جماعة من الأتراك وتحصن بها، فأشير عليه بأن يعتضد بالملك الحسين ملك الغورية، فلم يفعل، واستبد بنفسه منفرداً لأنه رأى اختلاف الأمراء على السلطان محمود بن محمد، فطمع وحدث نفسه بالقوة، فقصده المؤيد إلى هراة، فلما وصل إليها قاتل من بها شيئاً من قتال، ثم عن الأتراك مالوا إلى المؤيد وأطاعوه، وانقطع خبر سنقر العزيري من ذلك الوقت، ولم يعلم ما كان منه، فقيل: إنه سقط من فرسه فمات، وقيل: بل اغتاله الأتراك فقتلوه.
وتقدم السلطان محمود إلى ولاية هراة في عساكره وجنوده، والتحق جماعة من عسكر سنقر بالأمير إيثاق، وأغاروا على طوس وقراها، فبطلت الزروع والحرث، واستولى الخراب على البلاد وعمت الفتن أطراف خراسان، وأصابتهم العين، فإنهم كانوا أيام السلطان سنجر في أرغد عيش وأمنه، وهذا دأب الدنيا لا يصفوا نعيمها وخيرها من كدر وشوائب وآفات، وقلما يخلص شرها من خير، نسأل الله أن يحسن لنا العقبى بمحمد وآله.

.ذكر ملك نور الدين بعلبك:

في هذه السنة ملك نور الدين محمد بعلبك وقلعتها، وكانت بيد إنسان يقال له ضحاك البقاعي، منسوب إلى بقاع بعلبك، وكان قد ولاه إياها صاحب دمشق؛ فلما ملك نور الدين دمشق امتنع ضحاك بها، فلم يمكن نور الدين محاصرته لقربه من الفرنج، فتلطف الحال معه إلى الآن، فملكها واستولى عليها.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قلع الخليفة المقتفي لأمر الله باب الكعبة، وعمل عوضه باباً مصفحاً بالنقرة المذهبة، وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتاً يدفن فيه إذا مات.
وفيها توفي محمد بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت أبو بكر الخجندي، رئيس أصحاب الشافعي بأصفهان، وسمع الحديث بها من أبي علي الحداد، وكان صدراً مقدماً عند السلاطين، وكان ذا حشمة عظيمة وجاه عريض، ووقعت لموته فتنة عظيمة بأصفهان وقتل فيها خلق كثير.
وفيها كان بخراسان غلاء شديد أكلت فيه سائر الدواب، حتى الناس، وكان بنيسابور طباخ، فذبح إنساناً علوياً وطبخه، وباعه في الطبيخ، ثم ظهر عليه أنه فعل ذلك، فقتل؛ وأسفر الغلاء، وصلحت أحوال الناس.
وفيها توفي القاضي أبو العباس أحمد بن بختيار بن علي المانداي الواسطي قاضيها، وكان فقيهاً عالماً.
وفيها، في ربيع الآخر، توفي القاضي برهان الدين أبو القاسم منصور ابن أبي سعد محمد بن أبي نصر أحمد الصاعدي قاضي نيسابور، وكان من أئمة الفقهاء الحنفية. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة:

.ذكر الحرب بين سنقر وأرغش:

في هذه السنة كانت حرب شديدة بين سنقر الهمذاني وأرغش المسترشدي، وسببها أن سنقر الهمذاني كان قد نهب سواد بغداد بطريق خراسان، وكثر جمعه، فخرج الخليفة المقتفي لأمر الله، جمادى الأولى، بنفسه يطلبه، فلما وصل إلى بلد اللحف قال له الأمير خطلبرس: أنا أكفيك هذا المهم؛ وكان بينه وبين سنقر مودة، فركب إليه، وتلاقيا وجرى بينهما عتاب طويل لأجل خرجه عن طاعة الخليفة، فأجاب سنقر إلى الطاعة، وعاد خطلبرس وأصلح حاله مع الخليفة وأقطعه بلد اللحف له وللأمير أرغش المسترشدي.
فلما توجها إلى اللحف جرى بينهما منازعة، فأراد سنقر قبض أرغش، فرآه محترزاً، فتحارباً، واقتتلا قتالاً شديداً، وغدر بأرغش أصحابه، فعاد منهزماً إلى بغداد، وانفرد سنقر ببلد اللحف وخطب فيه للملك محمد، فسير من بغداد عسكراً لقتاله مقدمهم خطلبرس، فجرت بينهما حرب شديدة انهزم في أخرها سنقر، وقتلت رجاله، ونهبت أمواله التي في العسكر، وسار هو إلى قلعة الماهكي وأخذ ما كان بها، واستخلف فيها بعض غلمانه، وسار هو إلى همذان، فلم يلتفت إليه الملك محمد شاه، فعاد إلى قلعة الماهكي وأقام بها.

.ذكر الحرب بين شملة وقايماز السلطاني:

في هذه السنة أيضاً كان قتال بين شملة صاحب خوزستان، ومعه ابن مكلية، وبين قايماز السلطاني في ناحية بادرايا، فجمعا عسكرهما وسارا إليه، فأتاه البر بذلك وهو يشرب، فلم يحفل بذلك، وركب إليهم في نحو ثلاثمائة فارس، وكان معجباً بنفسه فحمل عليهم واختلط بهم، فأحدقوا به، وقاتل أشد قتال، فانهزم أصحابه، وأخذ هو أسيراً، فتسلمه إنسان تركماني كان له عليه دم، لأنه قتل ابناً للتركماني، فقتله بابنه وأرسل برأسه إلى محمد شاه.
وأرسل الخليفة عسكراً ليقاتل شملة ومن معه فانزاحوا من بين أيديهم، ولحقوا بالملك ملكشاه بخوزستان فهلك كثير منهم بالبرد.

.ذكر معاودة الغز الفتنة بخراسان:

كان الأتراك الغزية قد أقاموا بمدينة بلخ واستوطنوها، وتركوا النهب والقتل ببلاد خراسان، واتفقت الكلمة بها على طاعة السلطان خاقان محمود بن أرسلان، وكان المتولي لأمور دولته المؤيد أي أبه، وعن رأيه يصدر محمود.
فلما كان هذه السنة، في شعبان، سار الغز من بلخ إلى مرو، وكان السلطان محمود بسرخس في العساكر، فسار المؤيد بطائفة من العسكر إليهم، فأوقع بطائفة منهم، وظفر بهم، ولم يزل يتبعهم إلى أن دخلوا إلى مرو أوائل رمضان وغنم من أموالهم، وقتل كثيراً وعاد إلى سرخس، فاتفق هو والسلطان محمود على قصد الغز وقتالهم، فجمعا العساكر وحشدا، وسارا إلى الغز، فالتقوا سادس شوال من هذه السنة، وجرت بينهم حرب طال مداها، فبقوا يقتتلون من يوم الاثنين تاسع شوال إلى نصف الليل من ليلة الأربعاء الحادي عشر من الشهر، تواقعوا عدة وقعات متتابعة، ولم يكن بينهم راحة، ولا نزول، إلا لما لا بد منه؛ انهزم الغز فيها ثلاث دفعات، وعادوا إلى الحرب. فلما أسفر الصبح يوم الأربعاء انكشف الحرب عن هزيمة عسكر خراسان وتفرقهم في البلاد، وظفر الغز بهم، وقتلوا فأكثروا فيهم، وأما الأسرى والجرحى فأكثر من ذلك.
وعاد المؤيد ومن سلم معه إلى طوس، فاستولى الغز على مرو، وأحسنوا السيرة، وأكرموا العلماء والأئمة مثل تاج الدين أبي سعيد السمعاني وشيخ الإسلام علي البلخي وغيرهما؛ وأغاروا على سرخس، وخربت القرى، وجلا أهلها وقتل من أهل سرخس عشرة آلاف قتيل، ونهبوا طوس أيضاً وقتلوا أهلها وعادوا إلى مرو.
وأما السلطان محمود بن محمد الخان والعساكر التي معه فلم يقدروا على المقام بخراسان من الغز، فساروا إلى جرجان ينتظرون ما يكون من الغز؛ فلما دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة أرسل الغز ألى السلطان محمود يسألونه أن يحضر عندهم ليملكوه أمرهم، فلم يثق بهم وخافهم على نفسه، فأرسلوا يطلبون منه أن يرسل أبنه جلال الدين محمداً إليهم ليملكوه أمرهم، ويصدروا عن أمره ونهيه في قليل الأمور وكثيرها، وترددت الرسل واتاط السلطان محمود لولده بالعهد والمواثيق، وتقرير القواعد، ثم سيره من جرجان إلى خراسان، فلما سمع الأمراء الغزية بقدومه ساروا من مرو إلى طريقه، فالتقوه بنيسابور، وأكرموه وعظموه، وجخل نيسابور، واتصلت به العساكر الغزية، واجتمعوا عنده في الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وخمسمائة.
ثم إن السلطان محموداً سار من جرجان إلى خراسان في الجيوش التي معه من الأمراء السنجرية، وتخلف عه المؤيد أي أبه، فوصل إلى حدود النسا وأبيورد، وأقطع نسا لأمير اسمه عمر بن حمزة النسوي، فقام في حفظها المقام المرضي، ومنع عنها أيدي المفسدين، وأقام السلطان محمود بظاهر نسا حتى انسلخ جمادى الآخرى من السنة.
ولما كان الغز بنيسابور هذه السنة أرسلوا إلى أهل طوس يدعونهم إلى الطاعة والموافقة فامتنع أهل رايكان من إجابتهم إلى ذلك، واغتروا بسور بلدهم وبما عندهم من الشجاعة والقوة والعدة الوافرة والذخائر الكثيرة، فقصدها طائفة من الغز وحصروهم، وملكوا البلد، وقتلوا فيهم ونهبوا وأكثروا، ثم عادوا إلى نيسابور، وساروا مع جلال الدين محمد ابن السلطان محمود الخان إلى بيهق، وحصروا سابزوار سابع عشر جمادى الآخرى سنة أربع وخمسين وخمسمائة، فامتنع أهلها عليهم وقام بأمرهم النقيب عماد الدين بن محمد بن يحيى العلوي الحسيني، نقيب العلويين، واجمعوا معه، ورجعوا إلى أمره ونهيه، ووقفوا عند إشارته، فامتنعوا على الغز، وحفظوا البلد منهم، وصبروا على القتال.
فلما رأى الغز امتناعهم عليهم وقوتهم أرسلوا إليهم يطلبون الصلح، فاصطلحوا، ولم يقتل من أهل سابزوار، في تلك الحروب، غير رجل واحد، ورحل الملك جلال الدين والغز عن سابزوار في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وساروا إلى نسا وأبيورد.

.ذكر أسر المؤيد وخلاصه:

قد ذكرنا أن المؤيد أي أبه تخلف عن السلطان ركن الدين محمود بن محمد بجرجان، فلما كان الآن سار من جرجان إلى خراسان، فنزل بقرية من قرى خبوشان، اسمها زانك، وبها حصن، فسمع الغز بوصوله إلى زانك، فساروا إليه وحصروه بها، فخرج منه هارباً، فرآه واحد من الغز، فأخذه، فوعده بمال جزيل إن أطلقه، فقال الغزي: وأين المال؟ فقال: هو مودع في بعض هذه الجبال.
فسار هو والغزي، فوصلا إلى جدار قرية فيها بساتين وعيون، فقال للفارس: المال هاهنا؛ وصعد الجدار ونزل من ظهره ومضى هارباً، فرأى الغز قد ملأوا الأرض، فدخل قرية، فعرفه طحان فيها، فأعلم زعيم القرية به، وطلب منه مركباً، فأتاه بما أراد، وأعانه على الوصول إلى نيسابور، فوصل إليها، واجتمعت عليه العساكر وقوي أمره وعاد إلى حاله، وأحسن إلى الطحان، وبالغ في الإحسان إليه.

.ذكر اجتماع السلطان محمود مع الغز وعودهم إلى نيسابور:

لما عاد الغز ومعهم الملك محمد بن محمود الخان إلى نسا وأبيورد، كما ذكرناه، خرج والده السلطان محمود الجان، وكان هناك فيمن معه من العساكر الخراسانية، فاجتمع بهم واتفقت الكلمة على طاعته،وأراد عمارة البلاد وحفظها، فلم يقدر على ذلك، فلما اجتمعوا ساروا إلى نيسابور، وبها المؤيد أي أبه، في شعبان، فلما سمع بقربهم منه رحل عنها إلى خواف في السادس عشر منه، ووصلوا إليها في الحادي والعشرين منه ونزلوا فيه، وخافهم الناس خوفاً عظيماً، فلم يفعلوا بهم شيئاً، وساروا عنها في السادس والعشرين منه إلى سرخس ومرو، وكان بها الفقيه المؤيد بن الحسين الموفقي، رئيس الشافعية، وله بيت قديم، وهو من أحفاد الإمام أبي سهل الصعلوكي، وله مصاهرة إلى بيت أبي المعالي الجويني، وهو المقدم في البلد والمشار إليه، وله من الأتباع ما لا يحصى.
فاتفق أن بعض أصحابه قتل إنساناً من الشافعية، اسمه أبو الفتوح الفستقاني، خطأ، وأبو الفتوح هذا له تعلق بنقيب العلويين بنيسابور، وهو ذخر الين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني، وكان هذا النقيب هو الحاكم هذه المدة في نيسابور، فغضب من ذلك وأرسل إلى الفقيه المؤيد يطلب منه القاتل ليقتص منه، ويتهدده إن لم يفعل، فامتنع المؤيد من تسليمه، وقال: لا مدخل لك مع أصحابنا، إنما حكمك على الطائفة العلويين؛ فجمع النقيب أصحابه ومن يتبعه وقصد الشافعية، فاجتمعوا له وقاتلوه، فقتل منهم جماعة، ثم أن النقيب أحرق سوق العطارين، وأحرقوا سكة معاذ أيضاً وسكة باغ ظاهر، ودار إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وكان الفقيه المؤيد الشافعي بها للصهر الذي بينهم.
وعظمت المصيبة على الناس كافة، وجمع بعد ذلك المؤيد الفقيه جموعاً من طوس واسفرايين وجوين وغيرهم، وقتلوا واحداً من اتباع النقيب زيد يعرف بابن الحاجي الأشناني، فأهم العلوية ومن معهم، فاقتتلوا ثامن عشر شوال من سنة أربع وخمسين، وقامت الحرب على ساق وأحرقت المدارس والأسواق والمساجد وكثر القتل في الشافعية، فالتجأ المؤيد إلى قلعة فرخك، وقصر باع الشافعية عن القتال، ثم انتقل المؤيد إلى قرية من قرى طوس، وبطلت دروس الشافعية بنيسابور، وخرب البلد وكثر القتل فيه.

.ذكر حصر صاحب ختلان ترمذ وعوده وموته:

في هذه السنة، في رجب، سار الملك أبو شجاع فرخشاه وهو يزعم أنه من أولاد بهرام جور، وقد تقدم ذكره أيام كسرى أبرويز، إلى ترمذ وحصرها.
وكان سبب ذلك أنه في طاعة السلطان سنجر. فلما خرج عليه الغز طلبه ليحضر معه حربه لهم، فجمع عسكره، وأظهر أنه واصل فيمن عنده من العساكر إليه، وأقام ينتظر ما يكون منه، فلما ظفر حضر، وقال له: سبقتني بالحرب؛ وإن كان الظفر للغز قال: إنما تأخرت محبة وإرادة أن تملكوا! فلما انهزم سنجر، وكان ما ذكرناه، بقي إلى الآن، فسار إلى ترمذ ليحصرها، فجمع صاحبها فيروز شاه أحمد بن أبي بكر بن قماج عسكره، ولقيه ليمنعه، فاقتتلوا فانهزم فيروزشاه، ومضى منهزماً لا يلوي على شيء، فأصابه في الطريق قولنج فمات منه.

.ذكر عود المؤيد إلى نيسابور وتخريب ما بقي مها:

في هذه السنة عاد المؤيد أي أبه إلى نيسابور في عساكره ومعه الإمام المؤيد الموفقي الشافعي الذي تقدم ذكر الفتنة بينه وبين ذخر الدين نقيب العلويين وخروجه من نيسابور، فلما خرج منها صار مع المؤيد وحضر معه حصار نيسابور، وتحصن النقيب العلوي بشارستان واشتد الخطب وطالت الحرب وسفكت الدماء وهتكت الأستار وخربوا ما بقي من نيسابور من الدور وغيرها، وبالغ الشافعية ومن معهم بالانتقام فخربوا المدرسة الصندلية لأصحاب أبي حنيفة وخربوا غيرها وحصروا قهندز، وهذه الفتنة استأصلت نيسابور، ثم رحل المؤيد أي أبه عنها إلى بيهق في شوال من سنة أربع وخمسين وخمسمائة؛ كان ينبغي أن تكون هذه الحوادث الغزية الواقعة سنة أربع وخمسين مذكورة في سنتها وإنما قدمناها هاهنا ليتلو بعضها بعضاً فيكون أحسن لسياقتها.

.ذكر ملك ملكشاه خوزستان:

في هذه السنة ملك ملكشاه ابن السلطان محمود بلد خوزستان وأخذه من شملة التركماني، وسبب ذلك أن الملك محمداً بن السلطان محمود لما عاد من حصار بغداد، كما ذكرناه، مرض وبقي مريضاً في همذان، ومضى أخوه ملكشاه إلى قم وقاشان وما والاها، فنهبها جميعها، وصادر أهلها وجمع أموالاً كثيرة، فراسله أخوه محمد شاه يأمرم بالكف عن ذلك ليجعله ولي عهده في الملك، فلم يفعل، ومضى إلى أصفهان، فلما قاربها أرسل رسولاً إلى ابن الخجندي وأعيان البلد في تسليم البلد إليه، فامتنعوا من ذلك، وقالوا لأخيك في رقابنا يمين، ولا نغدر به، فحينئذ شرع ملكشاه في الفساد والمصادرة لأهل القرى.
فلما سمع محمد شاه الخبر سار عن همذان، وعلى مقدمته كرد بازوه الخادم، فتفرقت جموع ملكشاه فانهزم إلى بغداد، فلم يتبعه محمد شاه لمرضه، فنزل ملكشاه عند قرمسين، فلحق به قويدان، وكان قد فارق المقتفي لأمر الله، واتفق مع سنقر الهمذاني، فلحق كلاهما به، وحسنا له قصد بغداد، فسار عن بلد خزستان إلى واسط، ونزل بالجانب الشرقي، وهم على غاية الضر من الجوع ومن البرد، فنهبوا القرى نهباً فاحشاً، ففتح بثق بتلك الناحية فغرق منهم كثير، ونجا ملكشاه ومن سلم معه، وساروا إلى خوزستان، فمنعه شملة من العبور، فراسله ليمكنه من العبورإلى أخيه الملك محمد شاه، فلم يجبه إلى ذلك، وكاتب حينئذ الأكراد الكر الذين هناك، واستدعاهم إليه، ففرحوا به، ونزل إليه من تلك الجبال خلق كثير، فأطاعوه، فرحل ونزل على كرخايا، وطلب من شملة الحرب، فألان له شملة القول، وقال: أنا أخطب لك وأكون معك؛ فلم يقبل منه، فاضطر شملة إلى الحرب، فجمع عسكره وقصده، فلقيه ملكشاه ومعه سنقر الهمذاني وقويدان، وغيرهما من الأمراء، فاقتتلوا فانهزم شملة، وقتل كثير من أصحابه، وصعد إلى قلعة دندرزين، وملك ملك شاه البلاد، وجبى الأموال الكثيرة وأظهر العدل وتوجه إلى أرض فارس.

.ذكر الحرب بين التركمان والإسماعيلية بخراسان:

كان بنواحي قهستان طائفة من التركمان، فنزل إليهم جمع من الإسماعيلية من قلاعهم، وهم ألف وسبعمائة، فأوقعوا بالتركمان، فلم يجدوا الرجال، وكانوا قد فارقوا بيوتهم، فنهبوا الأموال، وأخذوا النساء والأطفال، وأحرقوا ما لم يقدروا على حمله.
وعاد التركمان ورأوا ما فعل بهم، فتبعوا أثر الإسماعيلية، فأدركوهم وهم يقتسمون الغنيمة، فكبروا وحملوا عليهم، ووضعوا فيهم السيف، فقتلوهم كيف شاؤوا، فانهزم الإسماعيلية وتبعهم التركمان حتى أفنوهم قتلاً وأسراً، ولم ينج إلا تسعة رجال.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة كثر فساد التركمان أصحاب برجم الإيوائي بالجبل، فسير إليهم من بغداد عسكر مقدمهم منكبرس المسترشدي، فلما قاربهم اجتمع التركمان، فالتقوا واقتتلوا هم ومنكبرس، فانهزم التركمان أقبح هزيمة، وقتا بعضهم، وأسر بعض، وحملت الرؤوس والأسارى إلى بغداد.
وفيها حج الناس، فلما وصلوا إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، أتاهم الخبر أن العرب قد اجتمعت لتأخذهم، فتركوا الطريق وسلكوا طريق خيبر، فوجدوا مشقة شديدة، ونجوا من العرب.
وفيها توفي الشيخ نصر بن منصور بن الحسين العطار أبو القاسم الحراني، ومولده بحران سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وأقام ببغداد وكثر ماله وصدقاته أيضاً، وكان يقرأ القرآن؛ وهو والد ظهير الدين الذي حكم في دولة المستضيء بالله على ما نذكره إنشاء الله.
وفيها توفي أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي ببغداد، وهو سجزي الأصل، هروي المنشأ، وكان قدم إلى بغداد سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة يريد الحج، فسمع الناس به عليه صحيح البخاري؛ وكان عالي الأسناد، فتأخر لذلك عن الحج، فلما كان هذه السنة عزم على الحج فمات.
وفيها توفي يحيى بن سلامة بن الحسن بن محمد أبو الفضل الحصكفي الأديب بميافارقين، وله شعر حسن ورسائل جيدة مشهورة، وكان يتشيع؛ ومولده بطنزة، فمن شعره.
وخليع بت اعذله ** ويرى عذلي من العبث

قلت: إن الخمر مخبثة ** قال: حاشاها من الخبث

قلت: فالأرفاث تتبعها ** قال: طيب العيش في الرفث

قلت: منها القيء، قال: أجل ** شرفت عن مخرج الحدث

وسأسلوها، فقلت: متى؟ ** قال: عند الكون في الجدث ثم دخلت: